مدينة الرياض
    

الثقافة الرقمية.. وعي العصر ومسؤولية الإنسان




الثقافة الرقمية.. وعي العصر ومسؤولية الإنسان

تشكل الثقافة الرقمية اليوم أحد أبرز ملامح الوعي الإنساني في زمن التحول التكنولوجي المتسارع. فهي ليست مجرد معرفة باستخدام الأجهزة والمنصات، بل منظومة متكاملة من القيم والسلوكيات والمعارف التي تحدد طريقة تفاعل الأفراد مع العالم الرقمي. إن مستوى الوعي الرقمي في أي مجتمع يعكس مدى نضجه الثقافي، ويظهر بوضوح في الطريقة التي يتعامل بها الناس مع المحتوى المنشور في المنصات الرقمية، فالمجتمع الواعي يقرأ بعقل ناقد ويتحقق قبل أن ينشر، أما المجتمع الذي يفتقر إلى الثقافة الرقمية فيغدو أكثر عرضة للتضليل والشائعات والمعلومات المغلوطة.
تشير التقارير الحديثة، مثل تقرير Digital 2024، إلى أن أكثر من 58% من مستخدمي الإنترنت حول العالم يشاركون معلومات دون التأكد من صحتها، وهو رقم يكشف هشاشة الوعي الرقمي حتى في البيئات المتقدمة تقنياً. فطريقة التفاعل مع المحتوى ليست مجرد سلوك عفوي، بل هي مرآة تعكس مدى ثقافة المستخدم الرقمية. من يتفاعل بعاطفة أو انفعال دون وعي يسهم في نشر الفوضى المعلوماتية، بينما المستخدم الواعي يسعى للتحقق والنقاش الهادئ وإثراء الحوار بمعلومة موثقة وتحليل متزن.
فالثقافة الرقمية ليست علماً يُدرّس فحسب، بل هي أيضاً مهارة تُكتسب وسلوك يُمارس. فالتعلّم يزوّد الفرد بالمعرفة التقنية والقانونية والأمنية، أما الممارسة اليومية فتغرس فيه قيم الانضباط والاحترام والرقابة الذاتية. إنها مزيج من الوعي والسلوك، لا تكتمل إلا إذا تحوّل الفرد من مستخدم سلبي إلى مشارك إيجابي يدرك أثر الكلمة والصورة في الفضاء الإلكتروني.
ومن خلال هذه الثقافة يتشكل وعي المجتمع وتتحدد اتجاهات الرأي العام. فكلما ارتفع الوعي الرقمي، تضاءل تأثير التضليل الإعلامي، وأصبح المجتمع أكثر قدرة على التمييز بين الرأي والمعلومة، وبين الخبر والدعاية. فالثقافة الرقمية هي التي تصنع مواطناً رقمياً مسؤولاً يدافع عن وطنه وقيمه في الفضاء الرقمي، ويسهم في بناء صورة إيجابية لوطنه أمام العالم.
كما تمثل الثقافة الرقمية خط الدفاع الأول في مواجهة الشائعات، إذ تمنح الأفراد أدوات التحقق من المصادر والتمييز بين المنصات الموثوقة والمشبوهة. فالمجتمع الواعي رقمياً لا يكون ضحية للمحتوى المضلل، بل يصبح جزءاً من منظومة الحماية الفكرية والمعلوماتية.
لقد شهدت المجتمعات، بلا شك، تطوراً في الوعي الرقمي مقارنة بالسابق، خصوصاً بعد جائحة كورونا التي عمّقت الاعتماد على التقنية في العمل والتعليم والتواصل. غير أن هذا الوعي ما زال غير مكتمل؛ فالمعرفة التقنية سبقت القيم الرقمية، والمعرفة بالاستخدام تجاوزت الوعي بالأخلاقيات. وهنا تبرز الحاجة إلى توازن بين التقدم التقني والارتقاء القيمي، حتى لا تتحول المنصات إلى فضاء للفوضى بدل أن تكون ساحة للحوار والبناء.
ولبناء رقابة رقمية إيجابية في المجتمع، لا بد من تضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام والمؤسسات الرسمية. فالتربية الإعلامية الرقمية، وبرامج التوعية، وتحفيز الإبلاغ الذكي عن المحتوى الضار، وتعزيز الإنتاج الإيجابي الوطني، كلها ممارسات تؤسس لوعي جماعي يحمي المجتمع من الانزلاق في دوامة المعلومات الزائفة.
إن ضعف التثقيف الرقمي يحمل مخاطر متعددة، منها انتشار الشائعات، وتزايد الابتزاز الإلكتروني، وضعف حماية الخصوصية، والانقسام المجتمعي الرقمي، وتراجع الإنتاجية الفكرية والمعرفية. فالفجوة في الثقافة الرقمية لا تهدد الأفراد فحسب، بل تمس الأمن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للدولة.
وتقع مسؤولية تعزيز الثقافة الرقمية في المملكة على أكثر من جهة، تتقدمها وزارة التعليم من خلال المناهج والأنشطة، ووزارة الإعلام والهيئة السعودية للإعلام المرئي والمسموع عبر التوعية والضبط، وهيئة الأمن السيبراني عبر التثقيف بالحماية الرقمية، إضافة إلى دور المؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني. غير أن المواطن نفسه يظل حجر الزاوية في هذه المنظومة، فهو المسؤول الأول عن سلوكه الرقمي، والمعبّر الحقيقي عن وعي المجتمع.
وفي الختام ، يمكن اختزال الرسالة في عبارة واحدة: كن مستخدماً واعياً ومسؤولاً، فالمحتوى الذي تشاركه يعكس فكرك وثقافتك، وقد يسهم في بناء وطنك أو في إرباكه. تحقق قبل أن تنشر، واحترم خصوصية الآخرين، وشارك ما يفيد مجتمعك وأمتك، فالثقافة الرقمية ليست ترفاً معرفياً، بل سلوك حضاري يجسد وعي الإنسان السعودي في عصر التحول الرقمي.
الثقافة الرقمية.. وعي العصر ومسؤولية الإنسان