شهد الإعلام خلال العقود الماضية تحولًا جذريًا غيّر ملامحه بالكامل، حيث انتقل من الاعتماد على الوسائل التقليدية في نشر الأخبار والمعلومات إلى الإعلام الرقمي، الذي استفاد من التقنية لتحقيق انتشار أوسع وأكثر تأثيرًا.
اليوم، نعيش مرحلة جديدة في تطور الإعلام، تُعرف بـ”الإعلام التجميعي” أو التعهيد الجماعي (Crowdsourcing)، وهو تحول يمثل ثورة حقيقية في مفهوم التواصل وآلياته، ويتجلى هذا التغيير بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي والمشاريع الإعلامية المستقبلية التي تعتمد على مشاركة الجمهور بشكل مباشر.
الإعلام التقليدي كان يعتمد بشكل رئيسي على الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون كقنوات أساسية لإيصال المعلومات، حيث كان الجمهور مجرد متلقٍ سلبي دون إمكانية للتفاعل أو المشاركة، ومع دخول العالم الرقمي، انفتحت الأبواب أمام أساليب أكثر تفاعلية، مما أتاح للجمهور أن يصبح شريكًا فاعلًا في إنشاء المحتوى.
التقنيات الحديثة ومنصات النشر الرقمي أعادت تشكيل طبيعة الإعلام، مما سمح بالوصول إلى جماهير أكبر وبطريقة أكثر تخصيصًا، النمو الرقمي الكبير يعكس هذا التحول، حيث أضحت المنصات الرقمية وسيلة أساسية لإيصال الأخبار والمعلومات.
لكن التطور لم يتوقف عند الإعلام الرقمي. دخلنا الآن عصر الإعلام التجميعي، الذي يعتمد على مساهمة الجمهور في إنتاج المحتوى، وسائل التواصل الاجتماعي مثل منصة “إكس”، وفيسبوك، وتيك توك، وحتى تطبيقات المحادثة أصبحت منصات رئيسية لهذا النوع من الإعلام.
اليوم، يمكن لأي شخص أن يشارك برأيه، أو ينقل صورة أو فيديو، أو يوثق حدثًا لحظيًا. هذه المشاركة أضافت بُعدًا جديدًا من التفاعل والمصداقية، وهو ما أكده تقرير حديث لعام 2024، حيث بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية 35.10 مليون شخص، ما يمثل 94.3% من إجمالي السكان، هذا الانتشار الكبير يعكس دور الإعلام التجميعي في تشكيل مستقبل الإعلام.
الإعلام التجميعي لم يغير فقط طريقة نقل الأخبار، بل أعاد تعريف العلاقة بين الجمهور والمحتوى. في الماضي، كانت المؤسسات الإعلامية الكبرى تحتكر المعلومات وتتحكم في إيصالها، أما اليوم، فأصبح الجمهور مصدرًا رئيسيًا ومباشرًا للمعلومات، مما أضفى تنوعًا غير مسبوق على المحتوى المتاح.
اصبحنا نشهد تطورات ملحوظة في هذا المجال، حيث تُستخدم المنصات الرقمية لتوثيق الأحداث المحلية ومشاركتها على نطاق عالمي. هذا التحول يعكس رؤية طموحة لمستقبل الإعلام، حيث يصبح الابتكار والمشاركة عوامل أساسية في نجاحه.
في منطقتنا والمملكة تحديدًا، شهدنا نموًا كبيرًا في استخدام المنصات الاجتماعية كأداة لتوثيق الأحداث الحية ونقلها، مما جعل الإعلام أكثر ديمقراطية وشفافية، وفقًا لتقرير صادر عن hootsuite يعتمد 70% من سكان الشرق الأوسط على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للحصول على الأخبار اليومية.
وبالرغم من الفرص الكبيرة التي يقدمها الإعلام التجميعي، إلا أنه يواجه تحديات متعددة، من أبرزها مسألة المصداقية، حيث يمكن أن تنتشر الأخبار الكاذبة أو المضللة بسهولة، بالإضافة إلى ذلك، تبرز قضية حماية خصوصية المستخدمين، خاصة مع زيادة الاعتماد على البيانات الشخصية لتحسين تجربة التفاعل.
في المقابل، يوفر الإعلام التجميعي فرصًا هائلة لتعزيز تأثيره، خاصة مع تبني تقنيات مبتكرة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، فهذه التقنيات تُعد بتحويل تجربة الإعلام إلى مستوى جديد كليًا، من خلال تقديم تجارب أكثر تفاعلية وشخصية للجمهور.
هذا الإعلام التجميعي يمثل نقلة نوعية في مفهوم الإعلام والتواصل، فلم يعد الإعلام يقتصر على كونه أداة لنقل المعلومات، بل أصبح مساحة مفتوحة للتفاعل المستمر بين المستخدمين والمؤسسات الإعلامية، وهذا التغيير يعيد تشكيل السلطة الإعلامية، وينقلها من المؤسسات إلى الأفراد.
الانتقال من الإعلام التقليدي إلى الرقمي، وصولًا إلى الإعلام التجميعي، يمثل رحلة مليئة بالتحديات والفرص، هذه التحولات ليست مجرد تطورات تقنية، بل هي تغييرات عميقة في طبيعة التواصل والإعلام، مما يجعل الإعلام أكثر قربًا من الناس، وأكثر تمثيلًا لتنوع أصواتهم وآرائهم، فهو ليس مجرد مرحلة عابرة، بل هو مستقبل الإعلام الذي يعتمد على الإبداع والمشاركة الجماعية.